1- أصلهما ونمط
حياتهما
بعد أن كتبت سيرة هؤلاء الرجال الأبطال، أرى من المفيد
أيضًا أن أذكر نساءً جاهدن، وما نقصن جهادًا عن الرجال، لا
بل فقنهم جهادًا. هؤلاء النسوة، لعمري، يستحققن امتداحًا
أعظم، لأنهن، على ضعف طبيعتهن، أظهرن من الشجاعة ما أظهره
الرجال، وحررن جسدهنّ مما يلحق به من عار
متوارث.
2-
سأذكر الآن إذًا مارانا وكيرا. لقد فاقتا سائر النساء
تجلّدًا في مآثرهن. وطنهما بيريه (Bérée)
وعاءلتهما رمز له، وتربيتهما مطابقة لأصلهما. لكنهما
نبذتا كل ما تمتازان به، وصنعتا حظيرة على مدخل المدينة،
وأقامتا فيها، وسدتا بابها بطين وحجارة. وبنتا
لخادماتهما، اللواتي رغبن في مشاركتهما هذا النمط من الحياة،
مسكنًا صغيرًا خارج تصوينتهما، وأمرتاهنّ بأن يقمن فيه.
لكنهما كانتا تراقبانهن من كوة صغيرة، وكانتا تحثانهن
غالبًا على الصلاة، وتشعلان في قلوبهن نار الحب الالهي.
أما هما، فلا بيت لهما ولا كوخ، بل كانت تعيشان في
العراء.
3- علاقتهما مع
الزوار
فتحت لهما بدل الباب نافذة ضيّقة، تتناولان منها القوت
الضروري، وتتحادثان مع النساء اللواتي يقصدن اليهما. لكن
هذه الزيارات كانت مقتصرة على زمن العنصرة، لأنهما تلزمان
الصمت في سائر ايام السنة. مارانا وحدها تتحدث الى
الزائرات، وما سمع أحد صوت الأخرى.
4- تقشفهما: توسط
تيودوريطس
تمنطقتا بالحديد، فحملتا منه حملاً ثقيلاً، حتى أن ظهر
كيرا، وهي الأضعف، لوى نحو الأرض، ولم يعد بإمكانها
تقويمه. ثيابهما سابغة، تغطي أرجلهما، وتنزل من أمام حتى
الزنار، فتحجب الوجه والعنق والصدر
واليدين.
5-
اني شاهدتهما مرارًا عديدة داخلالحظيرة. ولقد أمرتا بفتح
الباب لي، نظرًا الى رتبتي الأسقفية، ورأيتهما تحملان كتلة
من حديد، ليس لرجل، ولو في أوج عنفوانه، أن يرفعها. فتوسلت
اليهما، ملحًا، أن تلقيا الكتلة عنهما، فكان لي ما طلبت.
غير أنهما بعد رحيلنا عنهما، عادتا فطوقتا اعضاءهما: طوق من حديد
في الرقبة، وزنار حول الكلى، وما تبقى حول الذراعين
والقدمين.
6-
تأملهما
ونمط الحياة هذا تسلكانه، لا منذ خمس سنوات أو عشر أو
خمس عشرة فحسب، بل منذ اثنتين وأربعين سنة. وانهما، بعد
جهاد طويل، تحتفظان بالنشاط في تحمل المشقات القاسية،
كأنهما تباشران الجهاد في مستهله. وهكذا، فإنهما، وهما
تتأملان بهاء العريس، تتحملان بارتياح واسع، وبسهولة مميزة،
أتعاب المسيرة، وتعجلان في بلوغ نهاية جهادهما، فتريان
الحبيب ولقفًا، يقدّم لهما إكليل الظفر. فهما تتحملان
نوائب المطر والثلج والشمس، لا حزن ولا تشكٍِ، بل تعزية عن
هذه الأحزان الظاهرة.
7- الحج الى أورشليم والى قبر القديسة
تقلا
انهما، اقتداءً بصوم موسى الملهم، مكثتا مثله، على ثلاث
مرات، لا تأكلان. وما ذقن طعامًا إلا بعد أربعين يومًا.
وعلى ثلاث مرات، اقتدتا بإمساك دانيال الالهي، طوال ثلاثة
اسابيع، تناولتا في نهايتها طعامًا. وذات يوم، رغبتا في
تأمل الأماكن التي قدستها آلام المسيح الخلاصية، فانطلقتا نحو
أورشليم، لا تأكلان شيئًا طوال السفر. وحينما وصلتا المدينة،
وأتمتا أعمال العبادة، تناولتا طعامًا، ثم صامتا طوال طريق
العودة، التي تستدعي، على الأقل، عشرين نهارًا، مشيًا. ثم
سايرتا رغبتهما في مشاهدة قبر تقلا الظافرة، في ايزوريا،
لتشعلا في كل البيوت، نيران الحب الالهي، فصامتا في الذهاب
والاياب. وقد طارتا فرحًا من سحر الله، وجنّتا بحبهما الالهي
للعريس!
بهذا النمط من الحياة أصبحتا زينة الجنس الأنثوي،
ومثالاً لسائر النساء. والرب يعقد على رأسيهما أكاليل
الظفر.
أما أنا، وقد بيّنت ما يمكن الحصول عليه منهما من
فائدة. فإني انتقل الى غير سيرة، بعد الحصول على
بركتهما. |