1- مختلف أنماط
الحياة
اخترع عدو البشر المشترك طرقًا عديدة للشر، مجتهدًا في
اهلاك الجنس البشري في خراب شامل. بينما يتصور راضعوا
التقوى عددًا من السلالم المختلفة، للصعود الى السماء.
فمنهم من يجاهد في جماعة – ويوجد عشرات الألوف من هذه
الجماعات التي لا تحصى – ينعمون بأكاليل لا تفنى، ويسعدهم الحظ
في الحصول على صعود سلّم الفضيلة. ومنهم من يعتنق حياة
الوحدة، ويمتنع عن الكلام الاّ مع الله وحده، دون أن
يحتفظوا لأنفسهم، بأقل قدر من التعزية البشرية، فيحصلون
على اعلان اسمائهم، وآخرون يقضون حياتهم تحت الخيم أو في الأكواخ
يسبحون الله. وآخرون أيضًا يستهويهم العيش في المغاور
والكهوف. كثيرون ممن ذكرت، بعضهم اقتنعوا بأن يستغنوا عن
مغارة أو كهف أو كوخ، وانما هم يتحملون في العراء تقلبات
الطقس، فيرجفهم البرد القارس تارة، وتارة يلفحهم لهيب الشمس.
وتتضمن طريقة الحياة عند هؤلاء فوارق أخرى، فبعضهم يلبث
دائمًا واقفًا، وبعضهم يقضي يومه تارة وقوفًا وتارة
جلوسًا، وبعضهم يرفض الاتصال بالجموع، محتبسًا خلف حائط
محبسته، وآخرون عرضة لكل طالب أن يراهم، دون أية
حماية.
2- مسكن فريد من
نوعه
إني مضطر الآن الى البحث في شكل من أشكال الحياة هذه.
لأني أنوي أن أروي قصة برادات العجيب. فقد فكر هو أيضًا
بطرق جديدة يمارس فيها الصبر. ابتدأ بالاحتباس وقتًا
طويلاً، في بيت صغير، لا ينعم فيه إلاّ بالتعزية الالهية.
ثم تسلّق صخرة تشرف على هذا الموضع. فصنع له صندوقًا صغيرًا من
خشب، وأقام فيه ابدًا منحنيًا، لأنه ليس على قدّ جسمه،
وعلوه لا يبلغ طول جسمه. ولم يكن مصنوعًا من ألواح
متلاصقة، با متباعدة، كأنه حاجز يشبه النوافذ التي تفسح
للنور مجالاً واسعًا. وبهذا لم يكن في مأمن من وابل المطر، ولا
بمنأى عن نيران الشمس. ولكنه كان يتحمل أذاها كسائر
النسّاك، فلم يكن يفوقهم الاّ بما يواجهه في التنسّك من
عناء.
3- توسّط أسقف
انطاكية
بعد أن عاش مدة طويلة على هذا النمط، انتهى به الأمر
الى أن خرج من صندوقه، نزولاً عند الحاح تيودوس الملهم،
الذي كان يشغل كرسي رئيس اساقفة انطاكية. مع ذلك احتفظ
بالوقوف دائمًا، يداه مبسوطتان نحو السماء، وهو يشيد لإله
الكون. يغطي جسده ثوب من جلد، لم يترك فيه للتنفس سوى فتحة صغيرة
للأنف وللفم، ليتنشق ما حوله من هواء، لأنه لا يمكن
للطبيعة الانسانية ان تعيش على غير نسق. وانه يتحمل كل هذا
العناء، وليس في جسده قوة، بل هو فريسة أوجاع شتى. لكن
حماسته المتقدة التي يُلقمها نار الحب الالهي، تجبر على المعاناة
من لا يمكنه أن يعاني.
4- فضائله
انه بفعل فكرٍ وُهب نعمة الادراك، يحسن السؤال والجواب.
ويحدث ان يتمنط على أفضل وأقوى من الذين يعرفون ما عند
أريسطو من تعقيدات. وعلى رغم بلوغه قمة الفضيلة، لا يدع
الهوس يركب رأسه، بل يأمره ان يزحف في سفح الجبل، لأنه
يعرف أي ضرر يسببه فكر تنفخ فيه الكبرياء. وها هي ذي مختصرة،
حكمة هذاالرجل: أن تكون أبدًا على ازدياد، لتبلغ الهدف في
المسيرة. فمجد هؤلاء الظافرين هو بهجة يتقاسمها جميع
المؤمنين: أما أنا فإني، معتمدًا على صلواتهم، ارجو أن لا
أبتعد عن هذا الجبل، بل أن اصعده رويدًا رويدًا، كي أتنعّم
برؤياهم. |