1- نمط حياة
قررت دومنينا المدهشة، أن تقتدي بحياة مارون الملهم،
الذي تكلمت عنه سابقًا، فأقامت لها كوخًا
صغيرًا في حديقة منزل والدتها. وصنعت الكوخ من
أغصان الدّخن (الذرة البيضاء)، وأقامت هناك،
مبللة بالدموع المستمرة، ليس خديها فقط، بل وثيابها التي
من شعر، لأنها تلبس ثيابًا من هذا النوع. عند صياح
الديك، تذهب الى المعبد الالهي، وهو لا يبعد
عنها، لتسبّح لرب الكون، مع جميع الناس،
رجالاً ونساءً. تقوم بذلك في بدء النهار وفي نهايته، وهي
تعتبر وتعلم ان المكان المكرس لله، جدير بالاحترام
أكثر من سواه. ولهذا السبب أيضًا، اعتبرت أنه
يستحق كل عنايتها، فاقنعت أمها واخوتها في أن
ينفقوا ثروتهم في سبيل
الكنيسة.
2- نعمة
الدموع
طعامها عدس مغلي، وهي تحمّل هذا العناء جسدها الهزيل،
والأقرب الى الموت منه الى الحياة. جلدها الناعم
مثل قشرة رقيقة، يغطي عظامًا قصيمة، لأن
تقشفها استنفد ما فيها من شحم وعضل، وهي معرضة
لنظرات كل ناظر، من نساء ورجال، وهي لا ترى أحدًا ولا تكشف
طعامها عدس مغلي، وهي تحمّل هذا العناء جسدها
الهزيل، والأقرب الى الموت منه الى الحياة.
جلدها الناعم مثل قشرة رقيقة، يغطي عظامًا
قصيمة، لأن تقشفها استنفد ما فيها من شحم وعضل، وهي معرضة
لنظرات كل ناظر، من نساء ورجال، وهي لا ترى أحدًا ولا
تكشف وجهها لأحد. لكنها تحتجب بطرحتها، وتمكث
ملتوية على ركبتيها، ويسمع لها همسات تكاد لا
تدرك تعبر دائمًا عما في نفسها، من خلال دموعها.
طالما أمسكت يدي ووضعتها على عينيها، وردتها لي مبللة تقطر
منها الدموع.
هذه المرأة الغنية بالحكمة، والتي تبكي وتنتحب وتتنهد،
كمن يعيش في فقر مدقع، بأي كلام يمكن أن
نمتدحها انتداحًا تستأهله؟ هو حبّ الله
المضطرم منبع هذه الدموع، عندما يلهب الفكر
للتأمل في الله، وعندما ينشطه ويحثه على مغادرة الحياة
الفانية.
3- ضيافة
واحسان
انها، وهي على هذه الاستعدادات نهارًا وليلاً، لا تهمل
سائر الفضائل، بل تهتم ما استطاعت، بالمجاهدين
البواسل، الذين ذكرناهم، والذين لم نذكرهم.
وتهتم بالقاصدين اليها، فتأويهم عند راعي
قريتها، وتأتيهم بما هو ضروري، وتنفق عليهم، من ثروة
والدتها واشقائها، وهي تستمطر البركة على هذه الثروة.
وعندما اقدم أنا الى تلك الناحية، جنوبي
بلادنا، ترسل اليّ خبزًا وثمارًا وعدسًا
مغليًا.
4- أديار نسائية في
سوريا
ولكن، حتام أتوسع في سرد كل ما في هذه المرأة من فضيلة،
فيما الواجب يقضي علي أن أفسح مجالاً لسرد
حياة سائر النساء، اللواتي اقتدين بدومنينا،
والتي تكلمت عنهن سابقًا. فهناك الكثير منهن،
فضلن حياة النسك، أو قضين الحياة بالمحبة المشتركة، حتى
بلغن مايتين وخمسين تقريبًا، يعشن الحياة ذاتها، ويأكلن
الطعام ذاته. لا يرقدن إلا على الحصر، أيديهن
على المغزل، وعلى ألسنتهنّ
الترانيم.
5- خلاصة
هذه خلوات الحكمة، التي لا قِبَل لنا باحصائها في
منطقتنا وفي الشرق كله. هذه الخلوات تملأ
فلسطين ومصر وآسيا والبنطس وأوروبا بكاملها.
فمنذ كرّم المسيح سيدنا البتولية، بولادته من
بتول، أنبتت الطبيعة مروجًا للبتولات، وهي تقدم الى الخالق، عطر
زهور لا تفسد، دون أن تميز بين فضيلة الرجل
وفضيلة المرأة، ودون أن تفصل الحكمة الى
فئتين، لأن الفرق في الأجسام، لا في النفوس.
إنه، على حد قول الرسول الالهي، " لم يبق من بعد ذكر وأنثى، في
المسيح يسوع " (غلا 3:28). " ايمان واحد أعطي
للرجال والنساء". و"هناك رب واحد، وايمان
واحد، ومعمودية واحدة، واله واحد، أب لجميع
الخلق وفوقهم جميعًا، يعمل فيهم جميعًا، وهو فيهم
جميعًا"(أفسس 4:5). ملكوت السماء واحد أعدّه المسؤول عن
الألعاب، مكافأة مشتركة
للمتصارعين.
6-
بالنتيجة، كما قلت، عديدة هي أماكن العبادة
للرجال وللنساء، ليس عندنا فقط، بل في كل
سوريا وفلسطين وقيليقيا وما بين النهرين،
ويقال أيضًا أنه يوجد في مصر بعض الجماعات الرهبانية، تعد
الواحدة منها خمسة آلاف رجل، يعملون وهم يمجدون الرب،
وأعمالهم لا توفر لهم الطعام الضروري فقط، بل
ما يقدمونه الى الضيوف الوافدين اليهم، والى
المعوزين.
7-
إلا أنه يستحيل على المرء أن يروي كل شيء،
سواء أكنت أنا أم كان غيري. حتى لو أمكن ذلك،
فهو غير مجدٍ، على ما أظن. ولا ربح لأحد في
الاستزادة.
أما الذين يبتغون أن يجنوا بعض الثمار من روايتي،
فيكفيهم ما كتبت، لإشباع رغبتهم. لذا ذكرنا
سيرًا مختلفة، وزدنا على سيرة الرجال قصصًا
تتعلق بسيرة النساء، حتى يجد فيها الشيوخ والشبان
والنساء مثال الحكمة، ويتأثر كل واحد أثر سيرة ترضيه، ويتخذ
قاعدة لسلوكه الشخصي، الحياة التي تبسطها
الواية. فكما ان الرسامين يحدقون بالمثال،
فيقلدون العينين والأنف والفم والخدين
والأذنين والجبين، والشعر واللحية، والوضع جلوسًا أو وقوفًا،
والنظرة، جذابة أو رهيبة، هكذا يليق بكل من قراء
هذا الكتاب، وقد اختار سيرة مثالاً له، ان
ينظم حياته الخاصة، وفقًا للتي اختارها. وكما
يقوّم النجارون ألواحهم بحبل القياس، ويملّسون كل
ناتىء، حتى يتساوى والمثال، هكذا، فإن من يريد الاقتداء بسيرة
أحدهم، عليه أن يجعل منها قاعدة له، ويزيل ما
فيه من خبث، ويمتلىء بما ينقصه من فضيلة. واذا
كنا قد تحملنا المشقة، لوضع هذا المؤلف، فإنما
ذلك لكي نعرض على الراغبين وسيلة نافعة لهم.
وأطلب الى القراء الذين يفيدون من تعب الآخرين، دون عناء، ان
يقابلوا هذا التعب بصلواتهم.
8-
أتوسا
أيضًا الى الذين كتبت سيرتهم، ألا يبعدوني عن
جوقتهم الروحية، بل أن يجذبوني، أنا الذي على
هذه الفانية، ويقودوني الى قمة الفضيلة،
ويضموني الى جوقتهم، لئلا أكتفي بامتداح غنى الآخرين،
بل ليتوفّر لي السبيل، لأشيد، بمدائحي وأعمالي، وأقوالي
وأفكاري، بمخلّص الجميع، الذي له المجد وللآب
والروح القدس الآن ودائمًا وأبد الدهور.
آمين. |