القديسان زابيناس وبوليكرونيوس

Saints Zabinas et Paulikronios 
   

 

 

 

 
 
 

 تذكار القديسين زابيناس وبوليكرونيوس


 

1- نمط حياة زابيناس وفضائله

ما زال الذين أسعدهم الحظ فشاهدوا زابيناس، يعظّمونه حتى اليوم. يروى انه لما بلغ أقصى الشيخوخة ظل يمارس تقشفاته المعتادة حتى النهاية، وما اضطرّه عبء الشيخوخة هذا الى تغيير ما تعوده في شبابه. ويروى أيضًا انه كان يفوق جميع رجال عصره مواظبةً على الصلاة. فكان يقضي النهار والليل يصلّي، ولا يشبع، بل كان يتوق اليها بمزيد من الحرارة. وعندما كان الناس يأتون ليروه، كان يقلل من الكلام، لئلا ينقطع عن التأمل في السموات. وما أن يتركه زوّاره، حتى يعود الى ابتهالاته، وكأنه لم يفترق برهة واحدة عن اله الكون. وعندما لم تعد شيخوخته تخوّله أن يبقى أبدًا منتصبًا، بلا تعب، حمل عصا يستند اليها، ويرفع الى الرب، وهو متكىء عليها، مدائحه وصلواته.

2- شهرته واكرامه

كان، على سائر مزاياه، مضيافًا، يستبقي عنده عددًا كبيرًا من الزائرين. لكن هؤلاء خوفًا من أن يمكثوا وقوفًا، مثله، طوال الليل، كانوا يتذرعون ببعض الأشغال هربًا من التقشّف.

كان مارون العظيم، الذي تكلمت عنه، يعجب به كثيرًا، ويشجّع جميع تلاميذه على الالتفاف حول هذا الشيخ، والحصول على بركته. وكان يدعوه أبًا ومعلّمًا، ويصوّره مثالاً لكل فضيلة، حتى أنه طلب أن يُدفن في قبره. لكن أولئك الذين استولوا على جثمانه الطاهر، لم يحقّقوا رغبته، بل نقلوه الى المكان الذي أشرت اليه.

أما زابيناس الملهم، وقد توفي قبله، فدفن وفقًا للطقوس، في بلدة مجاورة لمكان عزلته، تدعى كيتيكا، وبني له معبد كبير، وضع فيه تابوته، لأنه ينشر كل أنواع الشفاء بين الناس، القاصدين اليه بإيمان. وهو يرقد الآن مع الشهداء الذين جاهدوا في فارس، ونكرّمهم كل سنة بمدائح.

3- بوليكرونيوس تلميذ ممتاز

أفاد بوليكرونيوس العظيم من تعاليم زابيناس. وقال يعقوب الالهي، ان زابيناس أعطاه ثوبه الأول المصنوع من شعر. أما أنا فلم أره أبدًا، لأنه بلغ أجله قبل مجيئي الى هنا. إلا انني أرى في بوليكرونيوس الشهير حكمة زابيناس الالهي، لأن بوليكرونيوس، انطبعت فيه حكمة زابيناس أكثر مّما ينطبع الشمع بالخاتم الحديدي. وأنا متأكد من ذلك، بنقارنة ما يحكى عن زابيناس، بما يفعله بوليكرونيوس. فهو مثله يضطرم شوقًا الى الله، ويتسامى على جميع الأمور الأرضية. وعلى الرغم من تقيده بجسد، كان يملك  روحًا مجنحة، فيخرق الهواء والأثير، ويتعالى على السموات، وهو أبدًا مستغرق في التأمل الالهي، فلا يدع فكره يحيد أبدًا عن ذلك. وانه، وهو يحادث زوّاره، لا ينفكّ يسبّح في الأعالي.

4- تيودوريطس يرسل اليه رفيقين

اليكم كيف علمت انه كان يقضي الليل سهرانًا واقفًا. ولما كنت أراه، وقد أرهقه التعب والشيخوخة، ولا من معين له، الححت عليه فأقنعته بأن يصطحب رفيقين يرتاح اليهما. فاستدعى ناسكين اشتهرت تقواهما، وقد كانا يمارسان حياة التأمل في خلوة أخرى. أقنعت هذين الراهبين التقيين، بأن يهتمّاقبل كل شيء، بخدمة رجل الله. فما أن عاشراه، حتى رغبا في الهرب، لأنه أعجزهما قضاء الليل وقوفًا. وبينا كنت أتوسل الى رجل الله أن يعادل بين تقشفاته وقواه الضعيفة ، قال لي: " أنا لا أجبرهما على الوقوف معي دائمًا، بل أدعوهما، غالبًا، الى الرقاد". فكانا يعترضان:" كيف لنا أن نرقد، ونحن في صحة تامّة، وفي عنفوان الشباب، بينما الذي شاخ وهو يتقشف، يمكث واقفًا، لا يأبه للتعب". وهكذا علمت كيف يتقشف، أثناء الليل، هذا الوجه الذي أجّله.

5- وصف تلاميذه

ومع الوقت، بلغ الرفيقان من الفضيلة، ما جعلهما يدركان من الحكمة ما أدركه بوليكرونيوس العظيم. وما زال أحدهما موسى – هذا هو اسمه – يعتني به كأبٍ ومعلّم، وهو يتحلّى بما كان يشعّ من هذه النفس الطاهرة من فضيلة. أما داميان – هذا اسم الثاني – فقصد الى قرية غير بعيدة تدعى نيارا، حيث وجد قرب الباحة كوخًا صغيرًا، تابع فيه نمط حياته، حتى أ الذين كانوا يعرفونهما تمامًا، كانوا يتصوّرون انهم يرونن وهم ينظرون اليه، روح بوليكرونيوس العظيم، في جسد آخر: البساطة ذاتها، واللطف، والاتزان، وعذوبة الصوت، وطيبة المعشر، واليقظة الروحية، وروح الله، والوقوف، والتقشّف، والسهر، والطعام، والفقر المطابق للشريعة الالهية. فانه، بقدر ما حصل على منفعة كبيرة، من مرافقة بوليكرونيوس العظيم، خلا منسكه من كل شيء، باستثناء سلة صغيرة للعدس المغلي.

6- ضد المجد الباطل

لكنّي أترك التلميذ لأعود الى المعلّم، لأن سبيل الماء يفيض من فيض النبع. وبعد أن طرد بوليكرونيوس من نفسه الطمع وسائر الأهواء، وداس تسلّط المجد الباطل، كان همّه أن يخفي تقشفاته. فلم يشأ أن يتقيد بسلاسل من حديد، خوفًا مما يلحق به من ضرر، اذا انتفخ كبرًا. لكنه طلب أن يأتوه بجذع سنديانة، مدّعيًا انهيحتاجه لأمرٍ ما، فيحمله ليلاً على كتفيه، وهو يصلي، تحت هذا الثقل، ويحمله نهارًا، في وقت الفراغ، ويخفيه في احدى الزوايا، اذا طرق بابه زائر. والذي رأى الجذع أخبرني بذلك. وقد حاولت معرفة وزنه، فكدت أعجز عن رفعه بيدي. ولما رآني أفعل ذلك، توسل اليّ أن أتركه، لكني أصررت على رفعه، لانتزع منه، خلسة، ما كان يتذرع به ليعذّب نفسه. ولكنّي عندما لاحظت انني اعنّيه، نزلت عند رغبته في احراز النصر.

7- عجائبه

وبفضل هذه التقشفات، ازدهرت نعمة الله فيه، وصلاته اجترحت عددًا من العجائب. فعندما حلّ الجفاف الرهيب، الذي كان يدفع الناس الى الصلاة، وهو يضنيهم، جاءه عدد من الكهنة، بينهم واحد من ناحية أنطاكية، له سلطة رعائية على عدة قرى. فطلب الى أقدم الكهنة الحاضرين، أن يقنعوا الرجل بأن يبسط يده على قارورة زيت. فأجابوا بأنه لن يوافق. وباشروا الصلاة، وشاركهم فيها هذا الوجه الذي اعتبره ملهمًا. بينما الكاهن خلفه يحمل القارورة ويقدّمها بيديه، فسال الزيت حتى أن اثنين او ثلاثة من الحاضرين مدّوا أيديهم وردّوها ممتلئة زيتًا.

8- تواضعه

انه، على ما كان يشع من نعمة الهية، وما كان له من أفضال، وما يكتسبه كل يوم من حكمة، كان له من التواضع ما يحمله على تقبيل قدمي كل من الزائرين القادمين اليه، وجبينه الى الأرض، أكان الزائر عسكريًا أم عاملاً أم قرويًا.

اليكم حادثة تظهر بوضوح، ما فيه من بساطة وتواضع: أسند حكم مقاطعتنا الى رجل صالح، فأراد، عند وصوله الى قورش، أن يزور بصحبتي، هؤلاء الأبطال العظام. وبعد جولة على سائر الرهبان، وصلنا الى الذي نتكلم عن فضائله. ولما اخبرته بأن مرافقي هو الحاكم، وأن همّه مراعاة العدل، وانه يولي المؤمنين اهتمامًا بالغًا، مدّ الرجل القديس يديه، ليقبل رجلي الحاكم، وقال: " التمس منك أمرًا". فتضايق الحاكم جدًا ورجاه أن ينهض، واعدًا اياه بأن يفعل ما يطلبه اليه، ظانًا انه يتوسط لمصلحة أحد مرؤوسيه. فقال له بوليكرونيوس: " بما انك وعدت وعدًا معززًا بالحلف، فقدّم الله صلاة حارة من أجلي". لكن الحاكم، وهويلطم جبينه، رجاه أن يحلّه من قسمه، معتبرًا انه غير أهل لأن يقدم صلاة الله حتى من أجل نفسه. فمن لنا بمن يمتدح رجلاً، بلغ من الحكمة مبلغًا عظيمًا، وهو لا يزال على قدر كبير من الحشمة!

9- فقره

ان تعشقه للصفاء لم يثنه عنه ما أصابه من الويلات على أنواعها. ورغم محاصرة المرض له في مضاعفاته، فانه يلزم نفسه بالتقشفات ذاتها. وبكثير من الكد والالحاح، تمكنّا من ان نبني له بيتًا صغيرًا، لنوفّر بعض الدفء لجسده المرتعش من البرد. كثيرون من الناس قدموا له، في حياتهم، قطعًا ذهبية، أو تركوا لها بعضًا منها، بعد موتهم، لكنه لم يقبل شيئًا من أحد، بل كلّف مقدميها، ان يوزّعوها بأنفسهم. قدمت ليعقوب العظيم عباءة من شعر، فأرسل بها اليه، لكنه أعادها الى يعقوب، لأنه وجدها مريحة جدًا، وأنيقة. ولم يلبس الا الأثواب البسيطة جدًا، والقليلة الثمن. ولا يلبث يصنع ذلك، وهو يعتبر الفقر أفضل الممالك كلها. ولم يتوفّر له دائمًا ما يأكله. أعرف ذلك لأنني كنت أقصد اليه غالبًا طالبًا بركته، فلا أجد عنده سوى تينتين يابستين. عذوبته محسدةً للناظرين، ومتعة للسامعين. لأنني لا أعرف أحدًا، حتى من بين الناقدين، وجّه اليه ملامة. بل العكس صحيح، فقد كان الجميع يمتدحونه. والذين يقتربون منه لا يعودون يتركونه ويشيدون به.

 
 
 

www.puresoftwarecode.com