وأخذ ينهل العلم عن أساتذة تضلعوا من أصوله وتمرسوا به
طويلاً، ويتودد إلى أتراب له في المدرسة، جروه وراءهم على طريق
الشر والفساد في سن مبكرة، ولم يخالفهم رأياً، وأبى أن يتخلف
عنهم في مداعبة الإثم والارتماء في أحضانه.
وعجز والده عن تأمين سفره إلى قرطاجا لمتابعة دروسه فانفتح
أمامه باب اللهو واسعاً.
وحين توفرت له أسباب الرجوع إلى المدرسة عاد واكب على الدرس
والتحصيل الجامعي فجلى بين زملائه في فن الخطابة، ودرس المحاماة.
وسافر من جديد إلى قرطاجة، حيث أسس بمساعدة أحد أثرياء
المدينة معهداً لتدريس الخطابة، فأقبل عليه الطلاب من كل حدب
وصوب، وأخذ يلقنهم، وجلهم من عمره، فن الكلام، ولم يتقيد بمنهج
رسمي، بل كان يتحين الفرص وينضم إلى صفوفهم، خارج أوقات الدرس،
ليقضي معهم زمناً، يتناقشون في خلاله مختلف المواضيع. وسرعان ما
اكتسب ثقتهم وتقديرهم وحببوا إليه السفر إلى روما للتدريس، لأن
قرطاجة، في نطاقها الضيق، أعجز من أن توفيه حقه في هذا المضمار.
ولدى قدومه إلى ميلانو تعرف أغوسطينوس إلى أمبروسيوس أسقف
المدينة وتردد عليه فتعلقه، واستمع إلى مواعظه فأعجبته بلاغتها،
وعايش الكاثوليك فصادق أكثر من واحد كما حظي بصداقة سمبلشيانوس،
الكاهن الشيخ، المعروف في المدينة بتقواه وفضيلته، فكفر بماضيه
واقتنع بضرورة العماد ثم ما لبث أن عدل عنه حتى نهاية السنة
الدراسية لأنه اعتبره نعمة عظمى لا توازيها نعمة إذا ما قبلها
المرء وجب عليه الترفع عن كل عيب.
أنهى أشغاله المدرسية وراح يستعرض في عزلة تامة، في كسيسيا
كوم، ماضيه المرير المؤلف، وهنالك بعيداً عن العالم، بالصلاة
والصوم والتأمل أعاد النظر في حياته كلها واعتمد، فكان اهتداؤه
إلى الكثلكة حدثاً صاعقاً في ميلانو.
وتعرضت الكنيسة الكاثوليكية لصدمات عدة من مختلف البدع
المسيحية، فاستعان به كاثوليك هييون لصد هجمات الدوناتيين
الكلامية، وقدموه إلى أسقفهم فرقاه إلى الدرجة الكهنوتية واتخذه
مساعداً له في إدارة الأبرشية.
وحين توفى مطرانه سيم اسقفاً خلفاً له فساس الأبرشية طوال
أربع وثلاثين سنة كان في خلالها المرجع الوحيد للجميع، ولم يكف
عن التأليف والكتابة برغم كثرة أشغاله الإدارية والروحية.