تأمل،
حياةٌ من
حياة وموتٌ من موت
الطالب
الإكليريكي شربل حواط -
إكليريكية مار
أغوسطينوس كفرا – عين
سعادة - لبنان
كفرا
19/2/2006
في بدء الزمن المسيحاني يوم لم يكن بعد على هذه
الأرض بارقليط أو روح قدس، عاش في
هذا الشرق القديم رجلٌ كان يقول
أنّه الله ومخارجَه منذ الأزل، وذات يوم أتاه
ناسك من برّيّة سيناء يسأله : أخبرنا، يا
معلّم، عن سرّ الوصلة بين هذه
الدار وتلك التي جئتَ أنتَ منها. وترنو
عينا المعلّم ويروح بألفظ مثلٍ زاخرٍ بالمعاني يقول :
سرّ العبور هذا كرجلٍ غنيٍّ
منتعّم على عتبة داره معدم وإذ
جازا إلى الآخرة أضحى الأوّل في عزلة كعذاب اللهيب والثاني
في غمرة اتثال كما في حضن الآباء،
وصار ما بينهما هوّة عبورها غير
ممكن.
ها نحن اليوم ههنا أمام كلمات ذاك الرجل، نغوص
فيها نستحرج بعض لآلئ أعماقها
تبسط لنا، على اقتضابها، سرّ
العلاقة والموت، جهنّم وتلك الهوّة الهائلة
اللامتناهية.
أيّها الأزليّ، بصيرورتكَ داخل الزمن، غورُ كلّ
علاقة تكشف للملأ. يا ابن الله، يا
من بجسدٍ واحد عانقت وضممت
بشريّةً، وبلحظة واحدة خرقت التاريخ من الأزل إلأى
النهايات، وبسكناك في تلك الناصرة ملأت
الكون وهجاً : أنتَ للغنيّ أعطيت
لعازر بوّابةً إلى العالم فلو لم يقبع في
ذاته لا يجتاز عتبةً لكان طبع تاريخه الشخصيّ بتلك
العلاقة – التجسّد ليعيدها إلى
الخلق الأوّل ويجمعها بغاية كلّ
شيء.
وأنتَ اليوم بديهيّ أن تدرك أن الجمال كلّ الجمال
أن تَخرُج وتُخرِجَ كنوزك
والنفاية من قلبكَ لواحد تختار –
ربّما هو على تلك العتبة – وتَسكُنه وتُسكِنُه فتصقل نفسكَ
على حبّه لتنموا معاً خليقةً أخى،
ذاك أجدى من ادّعاء محبّة شموليّة
لا تتجسّد وتبقى ضباباً وحلماً لا يُعاش.
إشغل قلبكَ بالحبّ وتألّم باحثاً عن صورة بديعة
للآخر تصقلها، وإن لم يبقَ لكَ
شيءٌ فلا تخف، فسيأتي يومٌ تكفيكَ
فيه لذّة الحبّ وحسب وتعزّي أيّامك، فتقوم نافضاً غبار
الموت الآتي.
والموت ؟ ترى كم انتظرته البشريّة أجيالاً مديدة
كعبءٍ ثقيل تحمله الأيّام فيلوي
العنق كحجرٍ ضخمٍ يقذفه القدر،
ولكن في الحقيقة ما هو سوى جزء من علاقة وجوديّة
تجمع الإنسان، الله والآخرين، وما هو سوى
خلقٍ أوكله إلينا
الآب.
مرّةً في البدء، جبلتني يا الله بيد تاريخ حبّك
لي لأعيش في أرضي هذه وفق إرادتكَ
أنتَ.
ومرّةً في النهاية، أجبل نفسي بيد تاريخ حبّي لكَ
لأعيش في أبديّتكَ أنتَ وفق
إرادتي أنا.
ذاك كان رهانكَ عليَّ، المعادلة أردتها لصالحي،
فشلتُ ولا أزال.
جعلت ولادتي نتيجة خلق وعلاقة لسواي، وموتي جعلته
خلقاً وعلاقةً لي ولكنّي لا زلتُ
أفشل في صنع موتي وفي بناء علاقةٍ
أعبر بها إليك مع إخوتي. فأنا أعرف أنّ
الإنسان وجودٌ في نقطة اتّصالٍ بين علاقةٍ عاموديّة
تجمعه وكلّ البشر وأخرى أفقيّة
تضمّه وإيّاهم إلى الآب، والموت
ما هو إلاّ كمال تلك العلاقة وملؤها وبقدر ما يتّصل
الإنسان بأخيه والكون بقدر ما يدخل
موحّداً ومرتاحاً غير منقسم إلى
العالم الآخر. تلك أمور أعرفها، أمّا العيش
فهيهات. فهل أصل إلهي جهنّم ؟!
جهنّم، تلك التي وُلدت لا من رغبة عقابٍ أو
دينونة بل منذ البدء كانت مع أوّل
نقصٍ في الحبّ وأوّل نقطة دمّ
هُرِقت أمام عيون الله السبعة.
جهنّم، لطالما ظننتكِ بُعداً عن الله وغربة عنه
!! ولكن اليوم أجد أنّكِ لستِ
سوى حضور الله ولكنّه لا يُضحي
إلاّ ذكرى لخطايانا. أتذكر قايين ؟ لكم حاول الإختباء من
تلك العين الإلهيّة فأبت إختفاءً
وكان عذابه عظيماً. فحين أسيء إلى
الحبيب وجوده يضع خطيئتي أمامي ولكن أنا واثقٌ
أنّه في النهاية سيشفيني.
أمّا تلك الهوّة الهائلة فما هي إلاّ تاريخي وقد
صار أنا، وهل بوسع إنسان أن يرمي
نفسه عنه؟ في ذاك العالم حين
يُضحي تاريخي جزءً منّي وأنا منه لا سبيل إلى نكرانه،
فمَن يا تُرى يُنكر نفسه ؟ ولو كان
تاريخي هوّةً وعزلةً بيني وبين
الآخرين فمن يقوى على ردمها ؟
الحقّ قال أغسطينوس عندما اعتبر أنّ الماضي هو
وجودٌ فعليّ للحاضر، والمستقبل وجودٌ
متوقّع له، وما اللحظة الحاضرة
إلاّ قوّة هائلة تسوس عربة الماضي نحو
المستقبل. والزمان لا ماضي ولا مستقبل له إنّه وحدةٌ
متكاملة، إنّه حاضرٌ هائل يُنسب له
الماضي ويصنع
المستقبل.
وأنا إذ أفكّر يا رب باللحظة التي تمرّ الآن
منسحبة إلى النسيان يمثل أمامي
قِصْرُ أيّامي وفناؤها وحقيقة
أنّني الآن، أجل الآن، أمام وجهك في أبديّة لا منظورة ولكن
حقيقيّة، لا أعود أبغي إلاّ عيشها
وأفهم أنّ نحيب الغنيّ ما هو إلاّ
نوعيّة حياة ووجود راح معها عكس ذاته وكينونته،
ما فهم أنّ لحظات حياته وأويقاتها مليئة
ببذار الأبديّة، فأهملها وظلّت
عقيمةً.
أبانا الذي في السموات، كأطفال نحن وهبتَ كلّ
واحدٍ منّا سيفاً حادّاً قد يحيا
به دافعاً أعداء وجهه وقد يؤذي به
نفسه، بيد أنّكَ رغم طفولتنا أوكلت إلينا ذلك السيف،
أعني تلك الحريّة، وبذا كشفتَ ثقتكَ
اللامتناهية بنا، فدعنا بها
نسبّحكَ، لأنّ خارج سيف الحرّية لا محبّة ولا
تسبيح، أيّها الثالوث، لك الشكر جزيلاً، في هذه
اللحظة، ليكون لكَ كذلك في
الأبدية ومدى الدهر،
آمين. |